تعتبر دول شرق آسيا من الدول التي عرفت نهضة اقتصادية واجتماعية وسياسية قوية ، و هذا راجع إلى عدة عوامل و أهمها الرؤية الإستراتيجية للدولة في مختلف المجالات و إلى طبيعة مجتمعات هاته الدول التي تقدس العمل و العمل الجماعي بشكل كبير جدا ، و تعتبره أولوية إستراتيجية.
لحدود الثمانينات و التسعينات من القرن الماضي كانت دول شرق آسيا تتخبط في مشاكل اقتصادية واجتماعية كبيرة و تعرف مديونية مرتفعة ، و لكن اهتمامها و التركيز على القطاعات الاجتماعية خاصة التعليم و الصحة و الشباب و إيلاء أهمية خاصة للبحث العلمي و اعتباره أحد الأعمدة و الركائز الأساسية في تطوير البلد ، بالإضافة إلى الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المتنوع و تطوير الصناعة التحويلية و فتح البلاد أمام رؤوس الأموال الخارجية بحذر من أجل الاستثمار مع تطوير الصناعات المحلية كلها عوامل جعلت دول شرق آسيا تحقق التقدم و التطور الحاصل و تواكب النظام العالمي الجديد و تتفوق عليه و لنا في الصين و اليابان و ماليزيا و أندونيسيا و سنغافورة و … أمثلة حية على ذلك.
إن العالم اليوم يعرف نموذجين واضحين من الذكاء الاستراتيجي : النموذج الغربي بقيادة أمريكا و النموذج الآسيوي بقيادة الصين. فالمجتمع الصيني مجتمع منظم بل فائق التنظيم: تنظيم عائلي ، تنظيم اجتماعي ، تنظيم إداري ، … و بالتالي يمكن القول إن الطبيعة الجماعية للمجتمع الصيني ترجع بالأساس إلى اعتبارات ديمغرافية و بالتالي فهي عامل من عوامل نجاح الإستراتيجية الصينية . إن الديمغرافية في الصين تتحكم في كل شيء و لا تفسح المجال للتخطيط مستقبلا و بالتالي فالأعداد الهائلة للبشر تقود إلى ضرورة التنظيم القصوى ، إن الصين دولة إستراتيجية بامتياز استطاعت بذكاء أن تركب قطار الآخرين (العولمة) وهو يمشي و اختارت الوقت المناسب للركوب.
إن الإستراتيجية بالمنظور الصيني ليست سوى الرجوع للأصل ففي 1820 كانت الصين تشكل 20% من سكان العالم و تنتج 20% من خيرات العالم. وفي سنة 1979 أطلق الرئيس الصيني دينغ كساو بينغ سياسة الإصلاح و الانفتاح وكان الهدف منها في أفق 2030 جعل الصين تستعيد المكانة التي كانت تحتلها سنة 1820، و كان أهم عامل أساس للنجاح تم الارتكاز عليه في هذا المشروع الاستراتيجي هو العبقرية الصينية في التجارة و الإنسان الصيني رجل تجارة بامتياز. وبالتالي الانتقال بالصين من بلد متخلف ينتج 1% من خيرات العالم سنة 1980 إلى القوة العظمى في أفق 2030 بإنتاج 20%. و قد عرف تطور الاقتصاد الصيني 03 مراحل أساسية :
المرحلة الأولى : مرحلة استقطاب و تجميع رؤوس الأموال
المرحلة الثانية : مرحلة تجهيز و تقوية البنية التحتية للبلاد
المرحلة الثالثة : مرحلة الانفتاح و تكوين زبائن سياسيين
مرحلة الاستقطاب و تجميع رؤوس الأموال :
تم خلال هاته المرحلة استقطاب رؤوس أموال صينية و أجنبية إلى مناطق حرة تمت إقامتها على الواجهة الساحلية للصين لبناء مصانع و تصدير منتجات استهلاكية عادية بثمن منخفض جدا ، باستخدام يد عاملة متوفرة بشكل كبير جدا و معتادة على العمل بجد و مؤهلة ورخيصة .
مرحلة تجهيز وتقوية البنية التحتية للبلاد :
عرفت هاته المرحلة استخدام المال الذي تم اكتسابه في المرحلة الأولى في تجهيز البلاد و تقوية البنية التحتية من طرقات و موانئ و لوجيستيك و تطوير السوق الداخلي، من خلال تطوير المنتجات المحلية بشكل احترافي ومتطور كي تنافس المنتجات الأوروبية و الأمريكية في الجودة وبأقل الأسعار.
مرحلة الانفتاح و تكوين زبائن سياسيين :
وهي المرحلة التي تعيشها الصين الآن ، حيث تمتلك أول احتياطي عالمي من العملة الصعبة و تستخدم دفتر الشيكات للتسوق في الأسواق العالمية و أسست شراكات استراتيجية قوية مع افريقيا و أمريكا اللاتينية، حيث أصبحت المنتجات الصينية تغزو الأسواق الإفريقية و اللاتينية بأثمنة جد منخفضة و ذات جودة عالية.
و بالتالي فنحن أمام دولة إستراتيجية بامتياز استطاعت بذكاء أن تصبح بلدا يسير برجلين الاغتناء الداخلي الذي يغذي التوسع الخارجي و العكس صحيح.
المصادر :
كتاب فقه الاستراتيجية للدكتور ادريس أوهلال
تعليقات ( 0 )